فضول الأطفال… هو أساس المنهج

بواسطة | يونيو 13, 2024 | تساؤل | 9 تعليقات

نتّجه من المنزل إلى الفندق حيث سيقام عرضا للسيرك. تجلس ابنتي ذات الخمسة أعوام في المقعد الخلفي في السيارة وتنظر من النافذة وفجأة يبدأ الحوار:


“بابا، ما هذا الخط الأبيض في السماء؟”


أجبت: “ماذا تظنين؟”


واستمرّت الأسئلة طوال الرّحلة: “كيف تطير الطّائرة؟”، ” لماذا برج خليفة داخل الغيوم؟”، “ماذا يوجد داخل الغيمة؟” وغيرها من الأسئلة المفتوحة التّي تثير التفكير والتساؤل. كنت أستمر بطرح الأسئلة عليها أحياناً، أو أتناول الهاتف لنبحث معاً عن الإجابة أحياناً أخرى… وكما نعلم أنّ عدداً كبيراً من أسئلة الأطفال يربك أولياء الأمور، ويظل بلا إجابة واضحة حين تتعلّق الأسئلة: بالحياة، بالموت، بالزواج، بالله وبالحروب… كما تلاحظون أجبت عن سؤالها الأول بسؤال؛ لأنكم كما تعلمون الأسئلة هي التي تنّمي الفضول، وتشجّع على التّعلّم مدى الحياة.


خلال هذا الحوار العفويّ، تذكرت الأهالي الذين حين يبدأ أولادهم بطرح الأسئلة يتذمرون ويطلبون منهم اللعب على ipad أو الهاتف المحمول أو الدخول إلى غرفتهم… وتذكرت أيضاً كيف يرددون: “ابني يغضب بسرعة أو ابنتي لا تحب القراءة”… الحلّ لمشاكل الغضب هو اللعب في الطبيعة، استخدام الحواس، لعب الأدوار، نظام غذائي صحيّ، وليس مشاهدة الهاتف المحمول لساعات أو شراء ألعاب كالأسلحة البلاستيكيةّ أو الدّبابات بمناسبة الأعياد أو الاحتفالات. أما حبّ القراءة فهو عادةً لن تنمو إلا إذا شاهد الطفل الكبار من حوله يقرؤون من أجل الاستمتاع، وخصص أولياء الأمور والمدرسين وقتاً يومياً لهذه العادة. القراءة الطّعام الذّي لا نستطيع العيش دونه.
تذّكرت كتاب The book of beautiful questions, Warren Berger كيف يشجعنا على طرح الأسئلة لاتخاذ القرارات، للإبداع، لإنشاء الروابط وللقيّادة.


تذّكرت المدرسة والمدرسين والمناهج التّي ندرّسها للأطفال الصّغار… تذّكرت كيف أن المعلّم يؤدي دوراً أساسياً أيضاً في تنمية الفضول وإعطاء المعنى داخل الصف. معلّم في اليوم الدراسيّ الأول قال لتلاميذ الصّف الأول اليوم سنكتب كتاباً ، ومعلماً آخر أعطاهم لائحة من الكلمات لحفظها والتدرّب عليها. الفرق شاسع بين من يعلّم من أجل الفهم والتأليف والإبداع وبين من يعمل من أجل الحفظ والتهجئة والإملاء. لا أريد من القارئ أن يفهم بأنني ضد القواعد والتهجئة والإملاء، ولكنّني أريد أن أسلّط الضوء على الأولويات. في عصر الذكاء الاصطناعيّ الآلة تكتب، وفي نفس هذا العصر يصبح تعليم الإبداع أولويّة. كيف نبدع؟ لماذا الإبداع مهم في حياتنا؟ هل نولد مبدعين أم نتعلّم الإبداع؟ هذه بعض الأسئلة التّي يمكن أن تشكّل فرصة تعلّم حقيقيّة في يومنا هذا.


نولد والفضول يسري في عروقنا، ولكننا نقتله بعادات ومناهج معلّبة… كم من فرصة للتّعلم ذهبت هدراً؛ لأنّ المعلمة ترّكز على إنهاء الكتاب المدرسيّ وأوراق العمل بدلاً من التّركيز على اهتمامات التّلاميذ وأسئلتهم… أقول دائماً للمدرسين في حال أخذ تصميم ورقة العمل وقتًا أكثر من حلّها، فهذا يعني أننا نستطيع أن نستبدلها بنشاط آخر.  


تولد فرص التّعلّم في الملعب المدرسيّ: حين يكتشف التّلاميذ أنّ النّمل يتناولون مثلاً بقايا الطعام، ويقودهم فضولهم إلى أسئلة مثل: أين يعيش النمل؟ كيف يعيشون؟ هل يتعاونون؟ كيف يتصرفون حين تمطر؟ ماذا لو كنّا بحجم النملة؟… الاستماع لأسئلة التّلاميذ مهم جداً خاصةً حين يكون التّلميذ شريكاً في عمليّة التّعلّم أوحين نعتمد على emergent curriculum المناهج التي ترّكز على اهتمامات واحتياجات وخبرات الطلاب الفرديّة.


أو قد تولد فرصة التّعلّم حين يأتي أحد التّلاميذ صباحاً ويده أو رجله مكسورة ومعه صورة الأشعة… وتبدأ أسئلة التلاميذ المتعلّقة بالهيكل العظميّ وكيف نحافظ عليه، وكيف ننمو وغيرها من الأسئلة التّي لا تخطر على البال: هل نستطيع العيش من دون عظام؟ كيف نصمّم يداً لرجل بترت يده؟


المعلم الذي سيصمم وحدةً عن النّمل أو عن الهيكل العظميّ سيجذب التلاميذ إلى مواضيع تثير اهتماماتهم، وسيطوّر مهارات البحث مثلا أو مهارة قراءة وفهم نص معلوماتيّ أو مهارة طرح الأسئلة، وسيربط تلك المعارف بمفاهيم تتخطى حدود المكان والزمان كالأنظمة والارتباط والكائنات الحيّة، وكل هذا سيرتبط بتطوير شخصيّة المتعلّم من خلال ربطها بصفات وملامح: متأمل ومفكّر.
ألا نردد دائما أننا نريد من التّلاميذ أن يكونوا باحثين؟ لماذا فإذن ما زلنا نعلّم درس فصل الخريف وتساقط ورق الشجر الأصفر في بلد لا يوجد فيه هذا الفصل، ولا يرتبط بحياة التلاميذ اليوميّة… لقد قالها Sir Ken Robinson في حديثه: هل تقتل المدرسة الإبداع؟ لمن لم يشاهد هذا الفيلم أدعوكم إلى مشاهدته والتفكير جيّدا بتجربتكم المدرسيّة، بتجربة أولادكم وبتجربة تلاميذكم.
وقبل ختام هذه المدوّنة، أوّد أن أشارككم تجربة شخصيّة جديدة حدثت معنا هذه المرة خلال عرض السيرك (الذهاب إلى السيرك هو عادة سنويّة نقوم بها أنا وابنتي). عندما سقط الرجل أرضاً خلال تقديمه عرضاً بهلوانيّا خطراً، اقتربت مني ابنتي ذات الثماني سنوات وقالت لي: “لا يهم إذا سقط، فنحن نتعلم من الأخطاء، لكن يجب ألا نرتكب الخطأ نفسه من جديد، هذا ما تقوله لنا مدرّسة اللغة الفرنسيّة في الصف.” ابتسمت وتذكرت مدونة سابقة كنت قد كتبتها عن الفشل. لا أعرف عن ماذا سنتحدث العام القادم، ولكن بالطبع سأشارككم التجربة…


وفي الختام أرغب في تشجيع معلمات الروضات على مراجعة المنهاج الدراسيّة والوحدات لإتاحة المجال والوقت لتطوير الإبداع والتفكير الناقد والتساؤل… للتفكير بالنوعيّة وليس بالكميّة… لربط التّعلّم بالواقع، وليس بالكتاب المدرسيّ…أترككم مع تلك الصور الأولى أحزن كثيراً حين أمرّ من أمام صفوف الروضات، وأجد 24 ورقة عمل معلقة على الجداريّة لتدريس الحرف “ج” و24 جمل باللون البنيّ… أما الثانية فهي أيضا داخل صفوف رياض الأطفال وسؤال مفتوح على التلميذ التفكير باجابته.

لون الجمل باللون البني

ما هي القصص التي ممكن أن تكتشفها عندما تلعب بتلك المواد؟

5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

9 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ماجد إبراهيم
ماجد إبراهيم
2 شهور

شكرًا على على هذه الإضاءة الرائعة.
أوافقك الرأي في أهمية الإبداع وتأثيره في شخصيات طلابنا، ولكن يحتاج المعلم للوقت والمرونة من الإدارة وكذلك هو بحاجة لمن ينير الدرب له ليبدع ويخرج أفضل ما عنده.

لينا
لينا
2 شهور

كلام من ذهب.

ضحى قبلان
ضحى قبلان
2 شهور

فعلاً! هناك العديد من المناهج التقليديّة ولكن مقاربة المعلّم وعقليته تبثّ فيها روحاً تحث على التفكير والإبداع. برأي دعم الإبداع هو قرار يتخذه المعلم حتى لو لم يكن جاهزاً! ما المانع ان نخطىء ونتعلّم ونتقصّى مع الطلاب، لا يجب ان يكون كل شيءٍ محسوباً… إضاءة مفيدة شكراً علي!

Kholoud Almajali
Kholoud Almajali
2 شهور

شكرا على هذه المعلومات و الموضوع شيق

عبدالهادي
عبدالهادي
2 شهور

مقالتك ملهمة جداً وتعزز من قيمة التعليم القائم على الفضول والاستكشاف

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
2 شهور

أبدعت استاذنا الكريم

Mahmoud Bedier
Mahmoud Bedier
2 شهور

المعلم الفاضل علي عز الدين أشكر لك إثارة هذا الموضوع المهم والذي أثار لدي تساؤلا أبحث له عن إجابات وهو:

كيف يمكننا تعديل بعض الانحراف الذي أصاب بوصلة التعليم لدي معظم الطلبة والأسر في الغاية من التعلم؟

فالسواد الأعظم الآن غايته من التعليم تحصيل العلامات، فتحولت من وسيلة إلى غاية، مما حال دون الاستمتاع بالتعلم والاستكشاف، بل وأشد ما أتلفه هذا الانحراف أنه أطفأ شعلة الفضول لدي الطلبة، فتجد الطالب الذي غايته تحصيل العلامات لا يهتم بأي جديد وليس لديه فضول الاستكشاف والمعرفة، ويكتفي بأداء الحد الأدنى من المهام ولا يسعى للإبداع والإتقان.

ذلك الطالب الذي جل همه الحصول على أعلى علامة حتى لو لم يتعلم هو هو الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم والمحاسب الذي لا يحب عمله ولا يستمتع به ولا يجد منه فائدة غير الحصول على المال وفقط.

Enas
Enas
2 شهور

أعجبني جدا 👌

Nurtan
Nurtan
2 شهور

مقالة رائعة اخرى كما عهدناك دوما استاذنا الراءع ، سلمت يمناك، نترقب منك كل ما هو جديد و راءع